عتّــــال
سالم الرحبي
لا يمكن لمن مثلي أن تهزمه مجموعة صغيرة من الشوالات، عشت بينها طويلاً وتقاسمت حملها مع حمار أبي مرات عدة.. في هذا المكان المزدحم لا يمكن لهذه الشوالات أن تهزمني، فأنا ابن غابة النخيل الخضراء ، والجبال الشاهقة المسننة التي عشقت ركوبها مع الريح.. انا ابن السواقي الصافية، وابن الأودية الهادرة، أنا ابن الصمت المهيب، وابن اللقمة العصية، لا يمكن لهذه الشوالات البسيطة أن تهزمني وسط هذا السوق المزدحم بالعرق والأنفاس ، سأحملها جميعاً ، سأفرغ حمولة الشاحنة قبل ان ينهي المشرف الآسيوي آخر مجة من سيجارته.
كانت الناس تتزاحم بين دهاليز السوق المسقوفة، التي لا يصلها الضوء إلا من مصابيح صغيرة معلقة بالأعلى، كنت أجاهد الانتهاء من آخر مجموعة لحمولة اليوم ، كان علي ان أعمل جاهداً كي أنهي جدولي الذي أعده المشرف آنفاً، وقسم العمل بيننا نحن العتالين.
بالأمس كان عليّ ان ابتاع بطاقة هاتف، لأتصل بالقرية، والدي لا يزال هناك يحرث أرضها بنظراته ، بعد أن منحها من روحه في الايام الغابرة، ومنحته سمرتها وانحاءة حادة على ظهره.
تخالف قدماي هنا تحت ثقل الشوالات لم يكن غريباً، جربته مراراً وتكراراً مع أبي في القرية، كنت أتلذذ به وأتخيل عينا "رقية" وهي تتبعني إعجاباً ، فتداخلني نشوة رجولية غريبة، أنسى فيها وطئ الثقل.
"رقية" تحب فيروز وهو اسم لم أعرفه إلا منها ، أحببته لاحقاً ، كان والدي الذي يعمل عتالاً شديد الصلة مع عائلتهم بحكم العمل، وكنت أنا شديد الصلة بوالدي، بحكم الأبوة.. كان علي أن اعرف قيمة اللقمة من ثقل كل شوال نحمله، كنا نحمل أشولة أعلم ما بداخلها من رائحتها.. هذا شوال ذرة، وذاك شوال تمر، والآخر شوال شعير، وهذا شوال رز، أما ذاك الذي يخز الأنف برائحته فشوال سماد.
حين نعود الى البيت تأكل معنا الروائح القابضة على انوفنا وملابسنا .. في بيتنا نصف الطيني ونصف السعفي قدور وسخة ليست كالتي في بيت "رقية".
"رقية" التي أحضر لها والدها يوماً "سنطوراً"، يعد من أكبر الكبائر في قريتي متحدياً الجميع وكاسراً أعرافهم..
كان صوت ملائكي يتهادى بين غابات النخيل، مع هسيس الفجر البارد الذي يوقظ السعف والعصافير، اخبرتني "رقية" لاحقاً انه لفيروز، أحضره أحد تجار فلسطين مخصوصاً لوالدها.
سافرت مع فيروز كثيراً.. فيروز التي لم أكن أعرفها ، ولم أشاهدها حتى، تخيلتها ملاكاً أبيض بأجنحة ، وتخيلتني بأجنحة بيضاء أيضاً، أطير بين قمم النخيل، على جواد هو الآخر يملك أجنحة بيضاء، تخيلتني أخطف "رقية" من شرفة بيتهم وأطير بها. نتبادل الحديث والنكات ونملأ الأركان ضحكاً وقهقهة، ولم يكن ثمة ما يوقظني من حلمي سوى صورة حمارنا التي تأبى إلا وان تشاركنا رحلة الطيران.
سمعت فيروز تصدح بـ"دخلك يا طير الوروار"، وتنسمت عذوبة صوتها في "الله معك يا هوانا"، ولكن لم يكن يخيفني أكثر من أغنيتها "يا حلو".
كنت أحلق يوميا بصحبة فيروز ورقية، تخيلت فيروز تشبه رقية بفمها الكرزي المدور وعيناها اللتان تشبهان فمها قليلاً مع شرود عذب، وبشرتها ناصعة البياض المشربة بحمرة الزعفران، وشعرها الداكن المنسدل على كتفيها.
رقية لم تكن تشبه بنات الحارة في شيء على الاطلاق، وكأنها قُدت من حلم، لم تكن تحمل ملامحهن ولا حتى ترتدي ملابسهن، كانت مختلفة في كل شيء، حضورها ملائكي ، يدوخني كلما اقتربت من بيتهم حاملاً شوالاً على ظهري.
احب فيروز وأخاف اغنيتها "يا حلو"، فيها ما يوقظ الواقع بداخلي، وما يبني الجدران الخرسانية.. "يا حلو شو بخاف ليلة عاصفة، يخطر ع بالك شي نجم وتؤوم تمشي بهالعتم".. كيف يمكن لنجم ان يخطفك مني يا رقية وانا النجم المعذب بين ظلال النخيل وأشجار الليمون والنارنج، أنا نجم هذه البقعة الذي لن يدع نجما آخر يخطفك منه.
في اتصال الأمس أخبرني والدي عن رقية التي زفت الى عريسها ، ابن احد كبار القرى المجاورة.. الأثرياء لا يتزوجون إلا من بعضهم.
عرفت هذا لاحقاً، حين بدأ والدي يعاني ارتعاشة السن في جسده، وحين بدأ تقوس ظهره جلياً، كان علي ان أحمل الشوالات لوحدي، وكان على أبا رقية ان يقتر علي في أجري.. هجرته الى المدينة ، حيث علي إفراغ حمولة أكبر ولكن سعرها يفي بسد الرمق الذي عجزت عنه في الأيام السابقة، هنا حيث هذا المشرف الآسيوي قرأ تفاصيل ذراعي وعرف اني عتّال بارع.
المشرف الذي لن أدعه يعتقد بوهني ولو للحظة، فأنا سليل غابة النخيل الخضراء والجبال المسننة والأودية الهادرة ، لذا لا يمكن لمجموعة صغيرة من الشوالات أن تهزمني وسط هذا المكان المزدحم...